مقالات

الكسب الحلال

بسم الله الرحمن الرحيم
الكسب الحلال
28 جمادى الأولى 1429، وفق: 30 /5/2008م
مسجد خالد بن الوليد بأركويت (63)
مهران ماهر عثمان

.
.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خير خلق الله أجمعين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛ فقد أمر الله تعالى عباده المرسلين، وجنده المؤمنين، والناس أجمعين، بتحري الحلال.
قال الله لعباده المرسلين: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون 51].
وأمر بذلك المؤمنين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة:172].
وتوجه الأمر بذلك للناس في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [البقرة: 168].
ومن تأمَّل في هذه الآيات وجد أن الله تعالى قرن الأمر بتحري الحلال بثلاثة أشياء:
بالأمر بالعمل الصالح، والأمر بشكره، والنهي عن اتباع خطوات الشيطان.
والأمر بالعمل الصالح أمر بشكره، قال تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا﴾ [سبأ: 13].
ووجه ذكر ذلك بعد الأمر بتحري الحلال أنه نعمة تستوجب أن يُشكر الله تعالى عليها.
وأما النهي عن اتباع خطوات الشيطان بعده فلأنه حريص على أن يأكل بنو آدم من الحرام.
.
.
وامتنَّ الله علينا برزقه الحلال الذي أكرمنا به في مواضع من القرآن، قال سبحانه: ﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ﴾ [النحل: 72]، وقال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: 70]، وقال: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ [غافر: 65].
.
.
.
الترغيب في العمل وتحري الحلال
من سعى إلى الكسب الحلال فهو في سبيل الله
فلقد مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ  رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ  مِنْ جَلَدِهِ وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ» رواه الطبراني في الكبير.
قال المناوي رحمه الله: “مثاب مأجور؛ إذ الخروج فيه كالخروج في سبيل الله أي الجهاد” [فيض القدير 3/ 41].
.
والعمل وتحري الحلال سبيل الأنبياء
فعَنْ الْمِقْدَامِ بْن مَعْدِي كَرِبَ  عَنْ رَسُولِ اللَّهِ  قَالَ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» رواه البخاري. وفي رواية: «كان لا يأكل إلا من عمل يده».
قال تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ﴾ [الأنبياء: 80].
أي: وعلمنا داود دون سليمان صناعة الدروع لتحميكم من فتك السلاح بأجسامكم، فهل أنتم -أيها الناس- شاكرون لهذه النعمة التي أنعم الله بها عليكم؟!
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ زَكَرِيَّاءُ نَجَّارًا» رواه مسلم.
وعنه في صحيح البخاري مرفوعاً: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الغَنَمَ»، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ».
.
والكسب الحلال يقي من التذلل للناس والتعرض لسؤالهم
ثبت عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ ، عَنْ النَّبِيِّ  قَالَ: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» رواه البخاري.
.
وأكل الحلال خير ما في الدنيا
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ: «أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلَا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنْ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ طُعْمة» رواه أحمد.
.
ومن الحياء من الله أن يحفظ العبد بطنه من دخول لقمة حرام إليها
فقد خرج الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ». قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ».
.
وحفظ البطن يكون بذلك؛ ألَّا يدخل إليها حرامٌ.
ومن الثمرات: استجابة الدعاء
قال ابن كثير رحمه الله: “والأكل من الحلال سبب لتقبُّل الدعاء والعبادة كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة” [تفسير القرآن العظيم 1/ 206].
ومما يدل لذلك:
حديث مسلم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾، وَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ»؟
وهذا الرجل الذي خيَّب لله رجاءه، وردَّ دعاءه، جمع أسباباً عديدةً من أسباب الاستجابة:
• إطالة السفر.
• أشعث أغبر.
• رفع اليدين حال الدعاء.
• الدعاء باسم الله تعالى.
• الإلحاح في الدعاء
ومع ذلك كلِّه رُدَّ عليه دعاؤه بأكله للحرام.
.
والمال الحلال تُطرح البركة فيه
أما قال : «إِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوٌ خَضِرٌ، فَمَنْ يَأْخُذْهُ بِحَقِّهِ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ» رواه أحمد.
.
.
ولقد كثرت الآثار والأخبار التي تنادي بالعمل، وبأكل الحلال.
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام فجاء له يومًا بشيء فأكل منه، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟! فقال أبو بكر: وما هو؟ فقال: تكهَّنتُ لإنسان في الجاهلية وما أُحسنُ الكِهانة (يجوز بفتح الكاف وبكسرها) إلا أني خدعته، فَلقينِي فأعطاني بذلك هذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه، وفي رواية أنه قال: “لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، اللهم إني أبرأ إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء”.
ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: “ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إلي من موطن أتسوق فيه لأهلي؛ أبيع وأشتري”.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “لا يقبل الله صلاة امرئ في جوفه حرام” [جامع العلوم والحكم، ص93].
وقال وهب بن الورد رحمه الله: “لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيء تنظر ما يدخل في بطنك حلال أو حرام” [جامع العلوم والحكم، ص93].
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.
رب صل وسلم على نبينا محمد.

الكسب الحلال

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *