قصة شهيد (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
قصة شهيد (3)
شهداء غزوة الرَّجِيع
14 جمادى الأولى 1446ه الموافق: 15 نوفمبر 2024م
مهران ماهر عثمان- مسجد الهداية بحي الهدى(7)
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على المبعوث رحمةً للعالمين، أما بعد؛
حديثنا عن شهداء الرَّجِيع، والرجيع ماء بين مكة وعُسْفان، وهو إليها أقرب، وحديثها في صحيح البخاري.
في شهر صفر من السنة الرابعة من الهجرة النبوية، بعث النبي صلى الله عليه وسلم سريةَ استطلاع جعل عليها: عاصم بن ثابت الأنصاري، وكانوا عشرةً، فسمع المشركون بهم، فخرجت بنو لَحيان في مئتي مقاتل.
فلحقوا بهم في فَدْفَدٍ([1]).
فقاتل القوم، فاستشهد أمير السرية عاصمٌ وستة معه، رضي الله عنهم، ولما قوتلوا قال عاصم: “اللهم أخبر عنا نبيَّك”.
وأعطى المشركون الأمان للثلاثة الباقين، وهم:
- خُبَيْب بن عَدِيّ.
- وزَيدُ بنُ الدَّثِنةِ الأنصاريُّ.
- وعَبدُ اللهِ بنُ طارِقٍ.
فلما وصلوا إليهم نقضوا العهد –وهذه عادة المشركين- وربطوهم، فقاومهم عبد الله فقتلوه، وذهبوا بالاثنين وباعوهما بمكة، فاشترى صفوان بن أُمية زيداً وقتله.
واشترى بنو الحارث خبيباً لأنه قتل أباهم الحارث بن عامر يوم بدر.
ولما كان معهم في الأسر أخبرت زينب بنت الحارث عنه بأمرين:
الأول:
طلب شفرة ليستحد بها، فأعطي الشفرة، وكان معها ابنٌ لها صغير، فاقترب من خبيب، ففزعت أمه وظنت أنه سيقتله بالشفرة، فقال لها: ما كنت لأفعل ذلك!
والثاني:
قالت زينب بنت الحارث: كنت أرى عنده العنب يأكل منه وهو في الأسر وما بمكة من عنبٍ!
ولما أرادوا قتله خرجوا به من الحرم إلى الحلِّ، فلما أردوا قتله طلب منهم أن يصَلِّي رَكعَتَيْنِ، فتَرَكوه، ثمَّ قال: لَولا أنْ تَظنُّوا أنَّ بي خَوفًا وضَجَرًا مِن قَتلِكم لي، لَطَوَّلتُ صَلاتي.
ثمَّ دَعا عليهم بقَولِه: “اللَّهُمَّ أحصِهم عَدَدًا، واقتلهم بَدَداَ، ولا تغادر منهم أحداً”.
أحصهم عدداً: لئلا ينجو مما سيدعو به عليهم أحد.
واقتلهم بددا: متفرقين.
ولا تغادر منهم أحداً: دعاء بأن يشملهم القتل جميعاً.
ثم قال:
ولَستُ أُبالي حِينَ أُقتَلُ مُسلِمًا … على أيِّ شِقٍّ كانَ للهِ مَصرَعي
وذلك في ذاتِ الإلهِ وإنْ يَشَأْ … يُبارِكْ على أوْصالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
والأوصال: المفاصل. والشلو: العضو. ممزع: مقطَّع.
وقال بعد أن أخرجوه لقتله: “اللهم إني لا أجد رسولاً إلى رسولك فبلغه مني السلام”.
ثم قالوا له – وهو مصلوب-: أتحبُ أنَّ محمداً مكانَك؟ فقال: “لا والله العظيم، ما أحبُّ أن يَفْدِيَني بشوكة يُشاكها في قدمه” [المعجم الكبير للطبراني 5/260-261].
لو كان خلاصه في شوكةٍ تصيب النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكان الأمر له، لاختار أن يموت ولا يمس النبي صلى الله عليه وسلم بسوء! فأيُّ حبٍّ هذا الذي حوتْه قلوبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم!!؟
ثم أختم بهاتين الكرامتين لخبيب وعاصم رضي الله عنهما:
الأولى لخبيب:
“قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيّكُم ينزل خبيباً من خشبته وَله الْجنَّة؟ فَقَالَ الزبير: أَنا والمقداد، قَالَا: فَوَجَدنَا حول الْخَشَبَة أَرْبَعِينَ رجلا فأنزلناه، فَإِذا هُوَ رطب لم يتَغَيَّر بعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَيَده على جرحه وَهُوَ ينبض، أَي: يسيل دَمًا كالمسك، فَحَمله الزبير على فرسه، فَلَمَّا لحقه الْكفَّار قذفه فابتلعته الأَرْض فَسُمي: بليع الأَرْض” [عمدة القاري شرح صحيح البخاري 17/ 101].
والثانية لعاصم:
كانَ عاصِمٌ رضي الله عنه قدْ قَتَلَ مِن قُرَيشٍ رَجُلًا مِن عُظَمائِهم، وهو عُقبةُ بنُ أبي مُعَيطٍ، فلَمَّا أُخبِروا أنَّه قد قُتِلَ بَعَثوا ناسًا لهم لِيَأتوا بقِطعةٍ مِن جَسَدهِ يُعرَفُ بها لِيَتأكَّدوا مِن مَقْتَلِه، فأرسَلَ اللهُ على جَسَدِه مِثلَ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ، والظُّلَّةُ: السَّحابةُ، والدَّبْرُ: ذُكورُ النَّحلِ، والمُرادُ: أنَّ اللهَ حَمَى جَسَدَ عاصِمٍ مِن كُفَّارِ قُرَيشٍ بتَظليلِ ذُكورِ النَّحلِ لِجَسَدِهِ، فلم يَقدِروا على أنْ يَقطَعوا مِن لَحمِه شَيئًا.
رب صل وسلم على نبينا محمد.
[1] / أرض مستوية.